أمضي قُدمًا، ثم أتعثر وأقع. أنهض مُجددًا، وأمشي مرةً أخرى، لأسقط. أتسلق الجبل وأهبط، وحبلي يتمزق، ولا سندٌ خلفي ولا ريحُ البلاء ترحمني. حتى جُوريتي أنبتت أشواكًا وأدمت أناملي، وحتى قلادتي الذهبية اللامعة باتت كالطوقِ يخنقني. وحتى أساور الإصرارِ أصبحت تكبّلني، ونواقيس النجاح تلعنني .
-ياربّ.
في ليلةٍ سوداء تلّبدت الغيوم في سمائها فزادتها رُعبًا، والرّعد يطرب في الأذن الخوف والبرق يخترق كل أمنٍ تأمله العيون، وروحي على رصيفٍ موحل، مشّردة من المعنويات، وكلّ ما يمرّ يشفقُ عليّ، أنا التي كنت أشفقُ عليهم جميعًا وأمدهم بالقوّة أشدها والمعنوياتِ أعلاها. ياه، كيف غدوتُ هكذا؟، كمّ التهمني الزمن، أحكم قبضته عليّ ثم وضعني بين فكيه، مضغني بقوّة مرةً تلوَ مرة، حتى غدوتُ رفاتًا بصقهُ بحقارة، لكنه تناسى أن يمضغ إحساسي مع أحشائي وتناسى قتله لأُعذب أضعافًا، من قال أن هذا لم يكن مؤلمًا؟ من قال أن جسدي لم يشعر بكل غرسة سنٍ في جلده، ولم يحسّ بألم السقوط بعد أن بصقه أسفلًا، من قال أن صدى ألمي لم يخترق السماء، ومن ينكر أن أنيني سمعه النمل في جحورهم وآلم قلبّ العقاربّ؟ دموعٌ حارّة من جوفِ العينِ تسللت، ثم صرخة:
-ياربّ.
دَوَتْ.
يؤلم كثيرًا، أن أكون هٰكذا، وحيدةً وبلا حيلة. مؤلمٌ جدًا أن أُترك في الخلف، وفي الأسفل، وفي القاع. المؤلم أنكِ لستِ هنا -يا معنويّاتي- ولا الحيلة. المبكي أنك لستَ تتحقّق يا حُلم ولا الأماني.
-ياربّ.
لكنّ الليلة السوداء الحالكة لم تطل، إذ عرّاها إشعاع شمسٍ حنون من ثوب التلبّد الذي ارتدتهُ سمائها، ليجرّ خلفَه شعاعًا تلوَ الآخر، ثم الشمس بأكملها. ثم ظهرت قطرات المطر القويّ المخيف الذي كادَ أن يقتلع الأشجار بسيلهِ، لآلئًا على الأوراقِ الخضراء السُندسيّة.
ثمّ بدأت المعجزة. في زاوية مَسرح البؤس حيثُ بصقني الزمن، اجتمعت الأشلاء المقطعة، وجُبرت العظامُ المكسورة، وشُفيت الجروح العميقة، واختفت النُدبات البشعة، برحمةٍ من الله.
ما لا يَقتلك، ولا يقتلع جذورك، يجعلك أقوى وجودًا، وجذورك أكثر تمسكًا، والحياة للأقوى، فهيّا! أوصلني لخط الموتِ يا زمن! ثمّ رحمةٌ من الله ستنعشني! وسأصبح أقوى، وأكثر وحشية لمواجهة هذهِ الحياة بأدغالها الموحشة، وأكثر عشوائية في نظامِها وأكثر همجية في آدابها. الحياة لُعبة تُدعى البقاءُ للأقوى، والأجدر على العطاء رُغم الانكسار هو الفائز.
حينَ قُلت: «ياربّ» لم أكن يائسة من ردّ الرّب، ربّ المعجزات، جامع الأشلاء المفرَّقة، جابر الكسور العنيفة، شافي الجروح الأليمة، الرحيم العليمُ بشلالاتِ الحزنِ التي أنهكت قلبي. ياربّ، وما خابَ من قالها، وما خُبت يومًا بعد قولها، النداءُ الإلهي الذي ما كللتُ يومًا انتظار ردّه، فـ«ياربّ» دومًا وأبدًا، حتى تُنهك روحي ممّا يقدمه لي الزمن، وحتى يوصلني إلى ما بعد خطّ الموت، الموت نفسه، حيثُ لا عودة إلى الشقاء، ودوامٌ إلى جوار ربّي الكريم. فياربّ حينها إلى الجنة، وياربّ الآن تيسيرًا لما أنهكَ روحي طويلًا.
حصّه
السبت، ١٩نوڤمبر٢٠١٦
١١:٤٢م.