الأربعاء، 27 أبريل 2016

للأمَاكن، أروَاحٌ.


مَضى زمنٌ مُذّ أن قمتُ بالكتابة، وعيني تَدمع. 
قِيل: ”للأماكِن، أرواح“ وأنا موشِكة على مُفارقة الروحِ التي احتضنتني وصَديقاتي لسنين.
لرُوح البهجة تِلك، المُشاغبة، المَرح، المؤازرة، المُساعدة، التّكاتف، لرُوح الطّفولة الممزوجة بالنّضج اللذيذ، لروح المَدرسةِ وأيّامها. 

أتذكرُ شُعوري في أوّل يومٍ مدرسيٍّ لي، ذّيل الحصان الذي زَيّنت أمّي شَعري بِه، الحَقيبة الوَرديّة على شخصيّات ”پراتز“ التّي كنت أفضّلها، نَبضات قَلبي السّريعة والتّرقب، وذلك الحِوار الذي دار في السّيارة.
«ماما، أي صّف أنا؟»
«أولى ثالث»
«يعني ينكتب جذي؟» ثم أنقش على نافِذة السّيارة أرقامًا مُضحكة، رَقم واحد مِعوجّ وثلاثة بأربعَة سنن، وأمّي تَضحك وتُجيبني: «إي، جذي».

أتذكرُ حينَ دَخلتُ فَصلي، أولى ثالث، وزميلاتِي تُعانق رؤوسهُن أطوِقة جميلة، وشرائط مُرتّبة، وبَعضنا أكتفت بشعرِها مَسدولًا وأخرى فضّلت الجَديلة الطّويلة، أفواهٌ فاغِرة، دموعُ بعضهُن وصِياحهن، ابتسامَة فَخر أمّي، ابنتها الكُبرى دخلت المدرسَة أخيرًا، أمَلُها. 

لإثنتي عَشرة سنة، كنتُ أبدؤهم جميعًا بالحَماسِ نفسه، بالتّجهيزات والقُرطاسيّة اللّطيفة، بالآمالِ الكبيرة، ثُم أُكافأ على اجتهادي بحَفلة تفوّق مُبهجة، اثنتا عَشرة حَفلة تفوّق، وثلاثُ تتويجات لِلقب ”ملكة الأخلاقِ“ كلَّ عامٍ مُنذ دخولي للثّانوية، فهل هوَ الوَداعُ لكل ما سَبق جميعًا؟
لبسُ المدرسة الموَحد المُضحك، الجوارِب لا بُدّ لها أن تكونُ طويلة والحِذاء أسود، أظافركِ مُقلّمة ووجهُكِ عارٍ من مَساحيق التّجميل، رغُم ذلك كنتُ أراكِ جميلة جدًا يا صديقتي، ويا صديقاتي. 

أتذَكر الحُوارات الجدّية في الممرات، حينَ كنّا نَعزلُ أنفسنا في فُقاعة عَن ضوضاء الفُسحة، وأتذكّر تمشّينا خِلسةً فيهم مرّة أخرى، هُروبًا مِن حصصٍ نستثقِلها وموادٍ لا نُطيقُها بدأتُ أهيم بِها حُبًا الآن! أتذَكرُ جيّدًا، ولَن أنسَى. 

أتذَكر أيّامَ الاختباراتِ والتّوتُر، نواسِي بعضنا إن أخفقتنا ونَفرحُ لنَجاحِنا جميعًا، أتذكّر حين كانت المُعلمة تُخبرنا بأنّها سَوف تَجمع الدّفاتِر/الكُتب قريبًا، دفاتِرنا وكُتبنا التّي أهملناها، لِننكبّ كالسّيلِ إلى نَقل ما فاتَ وما نقص، وبَعضنا لا تُبالي. مُعلماتنا اللاتي أعطونا مُهلاتٍ طويلة، للحِفظ والتّسميع، لتسليم المَشاريع والدَّفاتِر، إلى اللاتِي رَغبنَ بمصلحتي في كُل حين، ولم يَرغبن بغيرها إطلاقًا، إلى اللاتي عاملننا كبناتهن وأخَواتهن، كلّ الشُكرِ والامتنان.

سأشتاقُ إلى السّبورة البَيضاء وإلى العصاة الخَشبيّة الطويلة، سأشتاقُ إلى هَمساتنا في الحِصص والرسائل بيننَا، سأشتاقُ إلى كلّ ذلك، وها أنا بدأتُ أكرّر كلامي، ديباجَتي التّي كررتُها طويلًا مُنذ أوّل يوم في هٰذه السّنة، ديبَاجة الفِراق.
نَعم، للأماكِن أرواح يا صديقاتي، للأماكِن أرواح.
ونَحنُ نوشِك على فِراقِ أجمّل رُوح، رُوح المدرسة، عرفتُ قيمتها وربّما البَعضُ منكنّ تَجهلها، لكنّ ستَعلمونَ يومًا ما كتبته، أنها الرُّوحُ الأجمَل، «والأنقَـى». 

لنبكي بِصمت، وَقفة عَزاء لهٰذه الرّوح التي أوشَكت أن تموتَ، وَقفة حِداد على الأيّام الصّافيّة التّي لَن تَعود. 

وابتسامة! لاستقبال زائرنا، مُسقبلنا، ابتسامةٌ على المحيّا كبيرة، إلى الحياةِ الجَديدة، التي فَتحت لنا بابها تِلك الرّوح. 
ابتسامة. 


كُتبت في ٢٧ أبريل ٢٠١٦، اليوم الذّي يَسبق آخر يوم دراسي في الصّف الثّاني عَشر. 
رُبما خانني التّعبيرُ وربّما زلّت قريحتِي ولم تكن في ما كتبتهُ المرجوّة والمطلوبة، لٰكنّها زوبَعة المَشاعِر وما تَفعل.

حصّه. 
١٠:٥٧م

الاثنين، 18 أبريل 2016

ثانٍ.

كم هُو مُتعب أن تَرغب في الكَثير، وأنتَ في إطارٍ من اللاقُدرة والعَجز. كم هُم مُخجل أنّك تُريدُ تَقديم الكَثير، ولكِن بلا حيِلة.

عَقلُك ومنطِقُك يَحثّانك على الاستسلام ولكن قلبَك روحَك مُتشبثّان متمسّكان بما آمنا به، أنهم يَستطيعون وأن قُدرتهم على البَذل والعطَاء تفوقُ أي قُدرة. 

أنتُما اثنين:
الأوّل؛ قادِرٌ بالفِعل، وطموحُك وثقَتك بِنفسِك في محّلها، وتستطيعُ تَقديمَ ما أردته. 
والثّاني؛ حالمٌ جدًا وبصخَب، تَخرجُ من إطارِ عجزك عن طريق خيالكَ هٰذه وأحلامك تِلك، دُون قُدرة حقيقيّة مِنك على تحقيقها.

في حالَة أنّك الأول، فهنيئًا، والثّاني، عزائي لَك، وأصدَق مُواساتي لأني أعلمُ ما تَشعُر بِه جيّدًا. 

الحلّ يا ثانٍ أن.. تُقدّم أكثر! نَعم! لا تتّخذ هٰذه الصّعوبة حجّة للتخلّي عن حُلمك، قِيل: العَمل الجّاد يغلبُ الموهِبة.

فاعمل بجدّ يا ثانٍ! فلذّة وصولك إلى ما طمحتَ له لن يُضاهيها لذّة، ونَشوة انجازِك لا يُماثلها نَشوة، وابتسامة خافِق روحِك حينَها كُلها اتّساع، وفَخر.

لَم يَخلقنا الله عَبثًا، وربّما أعطى ”الأول“ ذكاءً تَحمله معلوماتُ خلاياه لكنّ ثِق بعدلِه -تعالىٰ- يا ثانٍ، إذ أعطاكَ العَزيمة وأودَعها في فؤادِك في صُورة ”طموح“، ومَبدأ التّعويِض يَلعب دَوره بوُضوحٍ لا نَراه نَحن، لٰكن نَثق بِه، وبأنّ الله خَلقَنا مُتساويين، لا أحد أفضَل مِن أحد، وليس هُناك شَخص يملك أكثر ممّا يملكه آخر، وإن بدا ذٰلك؟ فالتّعويض في لِقاءِ الآخِرة، ألا تَثق؟!

ستَتحطّم كثيرًا يا ثانٍ، سَتبكي أيامًا، سَتندب حظّك في ليالٍ طويلة يُصاحبُك فيها دَمعُك وهمّك، لكنّك في النّهاية، سَتصل! ومَهما بدا مُبتغَاك مُستحيلًا فإن الوُصول لهُ مُمكن! لذا كُن مرنًا لا يكسركَ مطبٌ تواجهه ولا يُغرقكَ سيلٌ تصادمُه.

ثِق بَعدلِ خالِقك، فهو يَعلم ما صخَب صَدركَ به، وما غضّ مضجَعك، وغصّ بهِ حلقك عِندما حَاولتَ البَوحَ به، وغضّ عَين سَعادتك عَن كل شيء، هُو أعلم بدمعِك الذّي أغرق وِسادتَك، ورغبَتك الصّادقة بالعَطاء، هُو أعلم بمحاوَلاتِك الحَثيثة للوُصول، وعثراتِك المؤلمة، هُو أعلم كم تُجاهد نفسَك للغبطة دُون الحَسد، ودُون الضّرر، هُو أعلمُ بصِدق ما في رُوحك، هو العَليمُ الجَابر، فأعد اشعال حَماسِ مَكتب بَريدِ روحِك، وهلمّ إلى الدّعاء! طُرودك إلى السّماء ستَغدو سُلمات دَرج نَحوَ القمّة، وهِي كفيلة بأن تَجعَلك تَعيشُ حياةً بتفاصِيل تُحبّها. 

إن لَم يُجدِ، فعلّه خير، وعلّه ثُقلًا في ميزَان حَسناتك، وعلّه صدًا لبلاءٍ سيؤذيك ويؤلمُك، لا تَخب، فهو السّميعُ البصير، سامِع طرودنا وهَمسُنا -وحده-. 

ثِق بنفسِك، وقُدرتك علىٰ العطاء، وخالِقك قَبل كلّ هٰذا، وإليهِ تُرجَع الأمور، ليَختار خيرَها لنَا. 

رقيقُ الحِس، ناعِم القَلب، صَلب العَزيمة وصَلدُ الرّوح، هٰكذا أنتَ يا ”ثانٍ“، فثِق وأقدم. 

حصّه.
١٨أبريل٢٠١٦.
٩:٤٨م

الجمعة، 15 أبريل 2016

نَحوَ الحُلم، بِنقاء.



حلمٌ بعيد، كان سرابًا، أمّا الآن فهو يزداد وضوحًا، وضوحًا جميلًا وكم هو لذيذٌ تعب مُحاولة الوُصول إليْه! حُلمٌ بعيد، تتناقص قناعَتي كلمَا قارَبتُ وصوله، في الأمس كنتُ أريدُ قُربه فحسب! اليَوم، أريدُ قُربه بجدارة، الجَدارة التّي تنقصُني كثيرًا. 

لا أعلم لمَ هي مُتعبةٌ كثيرًا! ولمَ من السّهل على نَفسي أن تنظرَ إلى ما لا تستطيعُ وصوله فقط، غاضةً بصرَها عمّا أنجزتهُ كغضّها إياهُ عَن فاحشة! 

«إلٰهي رضّني وأرضِني» طفَقتُ أهمس بهٰذا الدّعاءِ كثيرًا! أصبَحتُ على شفا حُفرة من السَّخط! بعيدةً كُل البُعد عن الرّضا! لَم أكن كذٰلك قطُّ ولا أعلمُ لماذا استحالتْ رُوحِي جَشِعة هٰكذا! أهيَ القسوَة؟ التّي جَعلتني أفكّر بأنّ جلّ ما لديّ هُو هٰذا الحُلم، فيَجُب عليّ أن أكونَ الأفضَل فيهِ علىٰ الأقلِّ!  أهيَ«كرامة»؟ أكرهُ أن أراها تُكسر أمامي أو حتّى تتصدّع في كُل ما يُوجد بداخِل نِطاقِ حُلمي ودائرته الحَمراء! 

لا يا عَنقاء، حَذاري الجشَع حذاريه! املئي قلبكِ قناعةً ورضًا، وهَلمّي إلى العَطاء! هَلمّي إلىٰ الطموحِ النّقي الذّي لا يَشوبه طمَع، ونظركِ إلى المملوءِ من الكأس، ولا شيء غيرَه! وإلى نفسِك، ولا أحد سواها، وإلى روحِك، وليسَ لروحٍ أخرى.

اسرحِي بعيدًا في الخَيالِ، ولٰكن لا تحرِمي واقعَكِ لَذّة القَناعة، فهِي كنزٌ تناضلين للحوزِ عليهِ كنِضالِ الصّبارِ في صَحرائه، اسرجي واقعَكِ بالأمَل، ومحيّاكِ بالابتسام! كفاكِ تذمرًا كفاها روحكِ تأنيبًا، و..
نَحوَ الحُلمِ بِنقاءٍ ، سيري وهَروِلي!.


حصّه.
الجمعة, 15أبريل2016
8:50 مساءً.

الخميس، 14 أبريل 2016

أُريدُني مُجددًا!


تائِهة، لا أعلمُ إلىٰ أين أمضِي، خطوَاتي كالرّيشِ إلى اللامَكان.
قِفي!» أمرتُها. 
لا أستَطيعُ التوقّفَ!» أجابتني. 
عَثراتٌ كثيرة، أريدُ التشبّث بالطمَأنينة لٰكنّها لا تُطيقُ عِناقي! تَهرُبُ بعيدًا!

انكسار، تعبتُ الهَزيمة، آثرتُ الدّموعَ والخُلوة بشَجني، والسّبات! أريدُ سُباتًا طويلًا لا يَفيقُ خاطرِي مِنه! سباتًا عن الهُمومِ طويل! شَهران طويلان من العَذاب، الفِراق، الخِيانة، التخلّي، التّهميش والإهمال، الخذلان، السّقوط، الخَيبة، المرَض، شهرَانِ طويلانِ للغايَة اقتاتا عَليّ، ينحَتون أجزاءً مِن روحي حتّىٰ لا يتبقّىٰ مِنها سِوىٰ سرابٍ!

مَللتُ انتظارَ الفرَج الذّي آملتُه، هَممتُ أنتَظرُ نهايَة كلَّ يومٍ لأخلو بوسَادتي وأعانِقَ أحلامِي وَحيدة، وأصحو بَعدها مُجددًا لمُواجهة واقِعي المحطّم، مرةً تِلوَ مرة وأيّامي ما زالَت مُرة! أينَ تِلكَ الحلاوَة التي اعتدتُها؟ أينَ الطمأنينة التّي أتمناها طويلًا؟
إننّي في الهَاوية ولا أرى سِوى جُدرانٍ طويلة حَولي، وأعلاهُم سَماء حَمراء تُمطرُ دُموعًا  داميَة، يَعجز قلبي ويُشلّ عَقلي عن التجَاوز، مَرض جَسدي وتهتّكت أحشائِي، انفجَر عَقلي وسكتَ قلبي عَن النبضِ والشعورِ سوى عن كلّ ألَم.
لم أعد أشعُر نَحوَهم بشيء، لا بحبٍ ولا بكره، أولٰئك الذين آذوني كَثيرًا بلا شُعور. 
خذْلان. أودّ اللومَ والعِتاب، أودّ البُكاء، أريدُ المسَاعدة والعِناق، أريدُ الرّاحة، أريد البُعد والتّلاشي، أريد  الاستِقلال مِن هٰذه القيودِ المقِيتة! أريدُ حُريّتي، أريدُ سَلامي، أريدُني مُجددًا.

الرّحمة» هَمستْ. 
الرّحمة.. 
لتتَذكر أنّها ”عَنقاء“ وأنّ النّارَ التّي حَرقتها طويلًا لإحيائِها مُجددًا! عَنقاء لا تَهابُ الحَريقَ وتوُلد نَيلوفَرتُها مِن بينِ الرّمادِ. 


حصّه.
الخميس، ١٤أبريل٢٠١٦م.
١٢:٥٥م.